الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
الشرح: قوله (باب العاقلة) بكسر القاف جمع عاقل وهو دافع الدية، وسميت الدية عقلا تسمية بالمصدر لأن الإبل كانت تعقل بفناء ولي القتيل، ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية ولو لم تكن إبلا، وعاقلة الرجل قراباته من قبل الأب وهم عصبته، وهم الذين كانوا يعقلون الإبل على باب ولي المقتول. وتحمل العاقلة الدية ثابت بالسنة، وأجمع أهل العلم على ذلك، وهو مخالف لظاهر قوله قلت: ويحتمل أن يكون السر فيه أنه لو أفرد بالتغريم حتى يفتقر لآل الأمر إلى الإهدار بعد الافتقار، فجعل على عاقلته لأن احتمال فقر الواحد أكثر من احتمال فقر الجماعة، ولأنه إذا تكرر ذلك منه كان تحذيره من العود إلى مثل ذلك من جماعة أدعى إلى القبول من تحذيره نفسه والعلم عند الله تعالى. وعاقلة الرجل عشيرته، فيبدأ بفخذه الأدنى فإن عجزوا ضم إليهم الأقرب إليهم وهي على الرجال الأحرار البالغين أولى اليسار منهم. الحديث: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ قَالَ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ قَالَ سَأَلْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَقَالَ مَرَّةً مَا لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ فَقَالَ وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا عِنْدَنَا إِلَّا مَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ فِي كِتَابِهِ وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ قُلْتُ وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ قَالَ الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ الشرح: قوله (قال مطرف) كذا لأبي ذر، وللباقين " حدثنا مطرف " ويؤيده أنه سيأتي بعد ستة أبواب بهذا السند بعينه ولفظه " حدثنا مطرف " وكذا هو في رواية الحميدي عن ابن عيينة، ومطرف هو ابن طريف بطاء مهملة ثم فاء في اسمه واسم أبيه، وهو كوفي ثقة معروف، ووقع مذكورا باسم أبيه في رواية النسائي عن محمد ابن منصور عن ابن عيينة. قوله (هل عندكم شيء ما ليس في القرآن) أي مما كتبتموه عن النبي صلى الله عليه وسلم سواء حفظتموه أم لا، وليس المراد تعميم كل مكتوب ومحفوظ لكثرة الثابت عن علي من مرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم مما ليس في الصحيفة المذكورة والمراد ما يفهم من فحوى لفظ القرآن ويستدل به من باطن معانيه، ومراد على أن الذي عنده زائدا على القرآن مما كتب عنه الصحيفة المذكورة وما استنبط من القرآن كأنه كان يكتب ما يقع له من ذلك لئلا ينساه، بخلاف ما حفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام فإنه يتعاهدها بالفعل والإفتاء بها فلم يخش عليها من النسيان، وقوله "إلا فهما يعطى رجل في كتابه " في رواية الحميدي المذكورة " إلا أن يعطي الله عبدا فهما في كتابه " وكذا في رواية النسائي، وقد تقدم في كتاب الجهاد من وجه آخر عن مطرف بلفظ " إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن". الشرح: قوله (باب جنين المرأة) الجنين بجيم ونونين وزن عظيم حمل المرأة ما دام في بطنها، سمي بذلك لاستتاره، فإن خرج حيا فهو ولد أو ميتا فهو سقط، وقد يطلق عليه جنين، قال الباجي في " شرح رجال الموطأ " الجنين ما ألقته المرأة مما يعرف أنه ولد سواء كان ذكرا أو أنثى ما لم يستهل صارخا كذا قال. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ الشرح: قوله (حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك وحدثنا إسماعيل) يعني ابن أبي أويس (حدثنا مالك) كذا للأكثر، وسقط رواية إسماعيل هنا لأبي ذر. قوله (عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) كذا قال عبد الله بن يوسف عن مالك وقال كما في الباب الذي يليه عن الليث " عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب " وكلا القولين صواب إلا أن مالكا كان يرويه عن ابن شهاب عن سعيد مرسلا وعن أبي سلمة موصولا، وقد مضى في الطب عن قتيبة عن مالك بالوجهين وهو عند الليث من رواية أبي سلمة أيضا لكن بواسطة، كما تقدم في الطب أيضا عن سعيد بن عفير عن الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب، ورواه يونس بن يزيد عن ابن شهاب عنهما جميعا كما في الباب الذي يليه أيضا، ورواه معمر عن الزهري عن أبي سلمة وحده أخرجه مسلم، وأخرجه أبو داود والترمذي من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة. وذكر فيه حديثين: قوله (أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى) وفي رواية يونس " اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت " وفي رواية حمل التي سأنبه عليها إحداهما لحيانية قلت: ولحيان بطن من هذيل، وهاتان المرأتان كانتا ضرتين وكانتا تحت حمل بن النابغة الهذلي فأخرج أبو داود من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس " عن عمر أنه سأل عن قضية النبي صلى الله عليه وسلم فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى " هكذا رواه موصولا، وأخرجه الشافعي عن سفيان ابن عيينة عن عمر فلم يذكر ابن عباس في السند ولفظه " أن عمر قال: أذكر الله امرأ سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئا " وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أن عمر استشار. وأخرج الطبراني من طريق أبي المليح بن أسامة بن عمير الهذلي عن أبيه قال " كان فينا رجل يقال له حمل بن مالك له امرأتان إحداهما هذلية والأخرى عامرية فضربت الهذلية بطن العامرية " وأخرجه الحارث من طريق أبي المليح فأرسله لم يقل عن أبيه ولفظه " أن حمل بن النابغة كانت له امرأتان مليكة وأم عفيف " وأخرج الطبراني من طريق عون بن عويم قال " كانت أختي مليكة وامرأة منا يقال لها أم عفيف بنت مسروح تحت حمل بن النابغة فضربت أم عفيف مليكة " ووقع في رواية عكرمة عن ابن عباس في آخر هذه القصة " قال ابن عباس: إحداهما مليكة والأخرى أم عفيف " أخرجه أبو داود، وهذا الذي وقفت عليه منقولا، وبالآخر جزم الخطيب في " المبهمات " وزاد بعض شراح العمدة " وقيل أم مكلف وقيل أم مليكة " وأما قوله " رمت " فوقع في رواية يونس وعبد الرحمن بن خالد " فرمت إحداهما الأخرى بحجر " زاد عبد الرحمن " فأصاب بطنها وهي حامل " وكذا في رواية أبي المليح عند الحارث لكن قال " فخذفت " وقال " فأصاب قبلها " ووقع في رواية أبي داود المذكورة من طريق حمل بن مالك " فضربت إحداهما الأخرى بمسطح " وعند مسلم من طريق عبيد بن نضيلة - بنون وضاد معجمة مصغر - عن المغيرة بن شعبة قال " ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهي حبلى فقتلتها " وكذا في حديث أبي المليح بن أسامة عن أبيه " فضربت الهذلية بطن العامرية بعمود فسطاط أو خباء " وفي حديث عويم " ضربتها بمسطح بيتها وهي حامل " وكذا عند أبي داود من حديث حمل بن مالك " بمسطح " ومن حديث بريدة أن امرأة خذفت امرأة أخرى. قوله (فطرحت جنينها) في رواية عبد الرحمن بن خالد " فقتلت ولدها في بطنها " وفي رواية يونس " فقتلتها وما في بطنها " وفي حديث حمل بن مالك مثله بلفظ " فقتلتها وجنينها " ونحوه في رواية عويم وكذا في رواية أبي المليح عن أبيه. قوله (فقضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو أمة) في رواية عبد الرحمن بن خالد ويونس " فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى أن دية ما في بطنها غرة عبد أو أمة " ونحوه في رواية يونس لكن قال " أو وليدة " وفي رواية معمر من طريق أبي سلمة فقال قائل " كيف يعقل " وفي رواية يونس عند مسلم وأبي داود " وورثها ولدها ومن معهم فقال حمل بن النابغة " وفي رواية عبد الرحمن بن خالد الماضية في الطب " فقال ولي المرأة التي غرمت ثم اتفقا: كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هذا من إخوان الكهان " وفي مرسل سعيد بن المسيب عند مالك " قضى في الجنين يقتل في بطن أمه بغرة عبد أو وليدة " وفي رواية الليث من طريق سعيد الموصولة نحوه عند الترمذي ولكن قال " إن هذا ليقول بقول شاعر بل فيه غرة " وفيه " ثم إن المرأة التي قضي عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها وإن العقل على عصبتها " وفي رواية عكرمة عن ابن عباس " فقال عمها إنها قد أسقطت غلاما قد نبت شعره، فقال أبو القاتلة إنه كاذب، إنه والله ما استهل ولا شرب ولا أكل، فمثله يطل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الجاهلية وكهانتها " وفي رواية عبيد بن نضيلة عن المغيرة " فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عصبة القاتلة وغرة لما في بطنها، فقال رجل من عصبة القاتلة: أنغرم من لا أكل - وفي آخره - أسجع كسجع الأعراب؟ وجعل عليهم الدية " وفي حديث عويم عند الطبراني " فقال أخوها العلاء بن مسروح: يا رسول الله أنغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، فمثل هذا يطل. فقال: أسجع كسجع الجاهلية " ونحوه عند أبي يعلى من حديث جابر لكن قال " فقالت عاقلة القاتلة " وعند البيهقي من حديث أسامة بن عميرة " فقال أبوها إنما يعقلها بنوها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الدية على العصبة وفي الجنين غرة، فقال: ما وضع فحل ولا صاح فاستهل، فأبطله فمثله يطل " وبهذا يجمع الاختلاف فيكون كل من أبيها وأخيها وزوجها قالوا ذلك لأنهم كلهم من عصبتها بخلاف المقتولة فإن في حديث أسامة بن عمير أن المقتولة عامرية والقاتلة هذلية، ووقع في رواية أسامة " فقال دعني من أراجيز الأعراب " وفي لفظ " أسجاعة بك " وفي آخر " أسجع كسجع الجاهلية؟ قيل يا رسول الله إنه شاعر " وفي لفظ " لسنا من أساجيع الجاهلية في شيء " وفيه " فقال إن لها ولدا هم سادة الحي وهم أحق أن يعقلوا عن أمهم، قال بل أنت أحق أن تعقل عن أختك من ولدها، فقال ما لي شيء، قال حمل وهو يومئذ على صدقات هذيل وهو زوج المرأة وأبو الجنين أقبض من صدقات هذيل " أخرجه البيهقي. وفي رواية ابن أبي عاصم " ما له عبد ولا أمة قال عشر من الإبل، قالوا ما له من شيء إلا أن تعينه من صدقة بني لحيان فأعانه بها، فسعى حمل عليها حتى استوفاها " وفي حديثه عند الحارث بن أبي أسامة " فقضى أن الدية على عاقلة القاتلة وفي الجنين غرة عبد أو أمة وعشر من الإبل أو مائة شاة " ووقع في حديث أبي هريرة من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل " وكذا وقع عند عبد الرزاق في رواية ابن طاوس عن أبيه عن عمر مرسلا " فقال حمل بن النابغة قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية في المرأة وفي الجنين غرة عبد أو أمة أو فرس " وأشار البيهقي إلى أن ذكر الفرس في المرفوع وهم وأن ذلك أدرج من بعض رواته على سبيل التفسير للغرة، وذكر أنه في رواية حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن طاوس بلفظ " فقضى أن في الجنين غرة قال طاوس الفرس غرة". قلت: وكذا أخرج الإسماعيلي من طريق حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه قال " الفرس غرة " وكأنهما رأيا أن الفرس أحق بإطلاق لفظ الغرة من الآدمي، ونقل ابن المنذر والخطابي عن طاوس ومجاهد وعروة بن الزبير " الغرة عبد أو أمة أو فرس " وتوسع داود ومن تبعه من أهل الظاهر فقالوا: يجزئ كل ما وقع عليه اسم غرة، والغرة في الأصل البياض يكون في جبهة الفرس، وقد استعمل للآدمي في الحديث المتقدم في الوضوء " إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا " وتطلق الغرة على الشيء النفيس آدميا كان أو غيره ذكرا كان أو أنثى، وقيل أطلق على الآدمي غرة لأنه أشرف الحيوان، فإن محل الغرة الوجه والوجه أشرف الأعضاء، وقوله في الحديث " غرة عبد أو أمة " قال الإسماعيلي قرأه العامة بالإضافة وغيرهم بالتنوين، وحكى القاضي عياض الخلاف. وقال: التنوين أوجه لأنه بيان للغرة ما هي، وتوجيه الآخر أن الشيء قد يضاف إلى نفسه لكنه نادر. وقال الباجي: يحتمل أن تكون " أو " شكا من الراوي في تلك الواقعة المخصوصة، ويحتمل أن تكون للتنويع وهو الأظهر، وقيل المرفوع من الحديث قوله " بغرة " وأما قوله عبد أو أمة فشك من الراوي في المراد بها، قال وقال مالك: الحمران أولى من السودان في هذا، وعن أبي عمرو بن العلاء قال: الغرة عبد أبيض أو أمة بيضاء، قال فلا يجزئ في دية الجنين سوداء إذ لو لم يكن في الغرة معنى زائد لما ذكرها ولقال عبد أو أمة، ويقال إنه انفرد بذلك وسائر الفقهاء على الإجزاء فيما لو أخرج سوداء، وأجابوا بأن المعنى الزائد كونه نفيسا فلذلك فسره بعبد أو أمة لأن الآدمي أشرف الحيوان، وعلى هذا فالذي وقع في رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة من زيادة ذكر الفرس في هذا الحديث وهم ولفظه " غرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل " ويمكن إن كان محفوظا أن الفرس هي الأصل في الغرة كما تقدم، وعلى قول الجمهور فأقل ما يجزئ من العبد والأمة ما سلم من العيوب التي يثبت بها الرد في البيع لأن المعيب ليس من الخيار، واستنبط الشافعي من ذلك أن يكون منتفعا به فشرط أن لا ينقص عن سبع سنين لأن من لم يبلغها لا يستقل غالبا بنفسه فيحتاج إلى التعهد بالتربية فلا يجبر المستحق على أخذه، وأخذ بعضهم من لفظ الغلام أن لا يزيد على خمس عشرة ولا تزيد الجارية على عشرين، ومنهم من جعل الحد ما بين السبع والعشرين، والراجح كما قال ابن دقيق العيد أنه يجزئ ولو بلغ الستين وأكثر منها ما لم يصل إلى عدم الاستقلال بالهرم والله أعلم. واستدل به على عدم وجوب القصاص في القتل بالمثقل لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر فيه بالقود وإنما أمر بالدية، وأجاب من قال به بأن عمود الفسطاط يختلف بالكبر والصغر بحيث يقتل بعضه غالبا ولا يقتل بعضه غالبا، وطرد المماثلة في القصاص إنما يشرع فيما إذا وقعت الجناية بما يقتل غالبا، وفي هذا الجواب نظر، فإن الذي يظهر أنه إنما لم يوجب فيه القود لأنها لم يقصد مثلها، وشرط القود العمد وهذا إنما هو شبه العمد فلا حجة فيه للقتل بالمثقل ولا عكسه. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُمْ فِي إِمْلَاصِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ فَشَهِدَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِهِ الشرح: قوله (حدثنا وهيب) هو ابن خالد وصرح أبو داود في روايته عن موسى بن إسماعيل شيخ البخاري به. قوله (عن هشام) هو ابن عروة، وصرح الإسماعيلي من طريق عفان عن وهيب به. قوله (عن أبيه عن المغيرة) في رواية الإسماعيلي من طريق ابن جريج " حدثني هشام بن عروة عن أبيه أنه حدثه عن المغيرة بن شعبة أنه حدثه " قال أبو داود عقب رواية وهيب: رواه حماد بن زيد وحماد بن سلمة عن هشام عن أبيه أن عمر، يعني لم يذكر المغيرة في السند. قلت: وهي رواية عبيد الله بن موسى التي تلي حديث الباب، وساق الإسماعيلي من طريق حماد بن زيد وعبد الله بن المبارك وعبيدة كلهم عن هشام نحوه، وخالف الجميع وكيع فقال " عن هشام عن أبيه عن المسور بن مخرمة أن عمر استشار الناس في إملاص المرأة فقال المغيرة " أخرجه مسلم. قوله (عن عمر رضي الله عنه أنه استشارهم) في رواية الإسماعيلي من طريق سفيان بن عيينة " عن هشام عن أبيه عن المغيرة أن عمر". قوله (في إملاص المرأة) في رواية المصنف في الاعتصام من طريق أبي معاوية عن هشام عن أبيه " عن المغيرة سأل عمر بن الخطاب في إملاص المرأة وهي التي تضرب بطنها فتلقي جنينها فقال: أيكم سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيئا " وهذا التفسير أخص من قول أهل اللغة أن الإملاص أن تزلقه المرأة قبل الولادة أي قبل حين الولادة، هكذا نقله أبو داود في السنن عن أبي عبيد، وهو كذلك في الغريب له. وقال الخليل أملصت المرأة والناقة إذا رمت ولدها. وقال ابن القطاع أملصت الحامل ألقت ولدها، ووقع في بعض الروايات ملاص بغير ألف كأنه اسم فعل الولد فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو اسم لتلك الولادة كالخداج، ووقع عند الإسماعيلي من رواية ابن جريج عن هشام المشار إليها قال هشام الملاص للجنين، وهذا يتخرج أيضا على الحذف. وقال صاحب البارع: الإملاص الإسقاط، وإذا قبضت على شيء فسقط من يدك تقول أملص من يدي إملاصا وملص ملصا ووقع في رواية عبيد الله بن موسى التي تلي حديث الباب " أن عمر نشد الناس من سمع النبي صلى الله عليه وسلم قضى في السقط". قوله (قال المغيرة) كذا في رواية عبيد الله بن موسى. وفي رواية ابن عيينة " فقام المغيرة بن شعبة فقال: بلى أنا يا أمير المؤمنين " وفيه تجريد، وكان السياق يقتضي أن يقول فقلت، وقد وقع في رواية أبي معاوية المذكورة " فقلت أنا". قوله (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة عبد أو أمة) كذا في رواية عفان عن وهيب باللام، وهو يؤيد رواية التنوين وسائر الروايات بغرة ومنها رواية أبي معاوية بلفظ " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها غرة عبد أو أمة". قوله (فشهد محمد بن مسلمة أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم قضى به) كذا في رواية وهيب مختصرا وفي رواية ابن عيينة " فقال عمر من يشهد معك؟ فقام محمد فشهد بذلك " وفي رواية وكيع " فقال ائتني بمن يشهد معك فجاء محمد بن مسلمة فشهد له " وفي رواية أبي معاوية فقال لا تبرح حتى تجيء بالمخرج مما قلت " قال فخرجت فوجدت محمد بن مسلمة فجئت به فشهد معي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قضى به". الحديث: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ نَشَدَ النَّاسَ مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي السِّقْطِ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ أَنَا سَمِعْتُهُ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ قَالَ ائْتِ مَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ عَلَى هَذَا فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنَا أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُمْ فِي إِمْلَاصِ الْمَرْأَةِ مِثْلَهُ الشرح: قوله (حدثنا عبيد الله بن موسى عن هشام) هو ابن عروة، وهذا في حكم الثلاثيات لأن هشاما تابعي كما سبق تقريره في رواية عبيد الله بن موسى أيضا عن الأعمش في أول الديات. قوله (عن أبيه أن عمر) هذا صورته الإرسال لكن تبين من الرواية السابقة واللاحقة أن عروة حمله عن المغيرة وإن لم يصرح به في هذه الرواية، وفي عدول البخاري عن رواية وكيع إشارة إلى ترجيح رواية من قال فيه " عن عروة عن المغيرة " وهم الأكثر. قوله (فقال المغيرة) كذا لأبي ذر وهو الأوجه، ولغيره " وقال المغيرة " بالواو. قوله (ائت بمن يشهد) كذا للأكثر بصيغة فعل الأمر من الإتيان، وحذفت عند بعضهم الباء من قوله " بمن " ووقع في رواية أبي ذر عن غير الكشميهني بألف ممدودة ثم نون ثم مثناة بصيغة استفهام الخاطب على إرادة الاستثبات أي أنت تشهد، ثم استفهمه ثانيا: من يشهد معك؟ قوله (حدثنا محمد بن عبد الله) هو محمد بن يحيى بن عبد الله الذهلي نسبه إلى جده، وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق ابن خزيمة عن محمد بن يحيى عن محمد بن سابق، وكلام الإسماعيلي يشعر بأن البخاري أخرجه عن محمد بن سابق نفسه بلا واسطة. قوله (أنه استشارهم في إملاص المرأة مثله) يعني مثل رواية وهيب قال ابن دقيق العيد: الحديث أصل في إثبات دية الجنين وأن الواجب فيه غرة إما عبد وإما أمة، وذلك إذا ألقته ميتا بسبب الجناية، وتصرف الفقهاء بالتقييد في سن الغرة وليس ذلك من مقتضى الحديث كما تقدم، واستشارة عمر في ذلك أصل في سؤال الإمام عن الحكم إذا كان لا يعلمه أو كان عنده شك أو أراد الاستثبات. وفيه أن الوقائع الخاصة قد تخفى على الأكابر ويعلمها من دونهم، وفي ذلك رد على المقلد إذا استدل عليه بخبر يخالفه فيجيب لو كان صحيحا لعلمه فلان مثلا فإن ذلك إذا جاز خفاؤه عن مثل عمر فخفاؤه عمن بعده أجوز، وقد تعلق بقول عمر لتأتين بمن يشهد معك من يرى اعتبار العدد في الرواية ويشترط أنه لا يقبل أقل من اثنين كما في غالب الشهادات، وهو ضعيف كما قال ابن دقيق العيد، فإنه قد ثبت قبول الفرد في عدة مواطن، وطلب العدد في صورة جزئية لا يدل على اعتباره في كل واقعة لجواز المانع الخاص بتلك الصورة أو وجود سبب يقتضي التثبت وزيادة الاستظهار ولا سيما إذا قامت قرينة وقريب من هذا قصة عمر مع أبي موسى في الاستئذان. قلت: وقد تقدم شرحها مستوفى في كتاب الاستئذان وبسط هذه المسألة أيضا هناك، ويأتي أيضا في باب إجازة خبر الواحد من كتاب الأحكام، وقد صرح عمر في قصة أبي موسى بأنه أراد الاستثبات. وقوله "في إملاص المرأة " أصرح في وجوب بالانفصال ميتا من قوله في حديث أبي هريرة " قضى في الجنين " وقد شرط الفقهاء في وجوب الغرة انفصال الجنين ميتا بسبب الجناية، فلو انفصل حيا ثم مات وجب فيه القود أو الدية كاملة، ولو ماتت الأم ولم ينفصل الجنين لم يجب شيء عند الشافعية لعدم تيقن وجود الجنين، وعلى هذا هل المعتبر نفس الانفصال أو تحقق حصول الجنين؟ فيه وجهان: أصحهما الثاني، ويظهر أثره فيما لو قدت نصفين أو شق بطنها فشوهد الجنين، وأما إذا خرج رأس الجنين مثلا بعدما ضرب وماتت الأم ولم ينفصل قال ابن دقيق العيد: ويحتاج من قال ذلك إلى تأويل الرواية وحملها على أنه انفصل وإن لم يكن في اللفظ ما يدل عليه. قلت: وقع في حديث ابن عباس عند أبي داود " فأسقطت غلاما قد نبت شعره ميتا " فهذا صريح في الانفصال، ووقع مجموع ذلك في حديث الزهري، ففي رواية عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الماضية في الطب " فأصاب بطنها وهي حامل فقتل ولدها في بطنها " وفي رواية مالك في هذا الباب " فطرحت جنينها " واستدل به على أن الحكم المذكور خاص بولد الحرة لأن القصة وردت في ذلك، وقوله "في إملاص المرأة " وإن كان فيه عموم لكن الراوي ذكر أنه شهد واقعة مخصوصة، وقد تصرف الفقهاء في ذلك فقال الشافعية: الواجب في جنين الأمة عشر قيمة أمه كما أن الواجب في جنين الحرة عشر ديتها، وعلى أن الحكم المذكور خاص بمن يحكم بإسلامه ولم يتعرض لجنين محكوم بتهوده أو تنصره، ومن الفقهاء من قاسه على الجنين المحكوم بإسلامه تبعا وليس هذا من الحديث، وفيه أن القتل المذكور لا يجري مجرى العمد والله أعلم. واستدل به على ذم السجع في الكلام، ومحل الكراهة إذا كان ظاهر التكلف، وكذا لو كان منسجما لكنه في إبطال حق أو تحقيق باطل، فأما لو كان منسجما وهو في حق أو مباح فلا كراهة، بل ربما كان في بعضه ما يستحب مثل أن يكون فيه إذعان مخالف للطاعة كما وقع لمثل القاضي الفاضل في بعض رسائله " أو إقلاع عن معصية كما وقع لمثل أبي الفرج بن الجوزي في بعض مواعظه " وعلى هذا يحمل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا عن غيره من السلف الصالح، والذي يظهر لي أن الذي جاء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عن قصد إلى التسجيع وإنما جاء اتفاقا لعظم بلاغته، وأما من بعده فقد يكون كذلك وقد يكون عن قصد وهو الغالب، ومراتبهم في ذلك متفاوتة جدا. والله أعلم *3* الشرح: قوله (باب جنين المرأة وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد) ذكر فيه حديث أبي هريرة المذكور في الباب الذي قبله من وجهين، قال الإسماعيلي: هكذا ترجم أن العقل على الوالد وعصبة الوالد، وليس في الخبر إيجاب العقل على الوالد، فإن أراد الوالدة التي كانت هي الجانية فقد يكون الحكم عليها فإذا ماتت أو عاشت فالعقل على عصبتها انتهى. والمعتمد ما قال ابن بطال، مراده أن عقل المرأة المقتولة على والد القاتلة وعصبته. قلت: وأبوها وعصبة أبيها عصبتها فطابق لفظ الخبر الأول في الباب وأن العقل على عصبتها، وبينه لفظ الخبر الثاني في الباب أيضا وقضى أن دية المرأة على عاقلتها وإنما ذكره بلفظ الوالد للإشارة إلى ما ورد في بعض طرق القصة وقوله " لا على الولد " قال ابن بطال: يريد أن ولد المرأة إذا لم يكن من عصبتها لا يعقل عنها لأن العقل على العصبة دون ذوي الأرحام ولذلك لا يعقل الإخوة من الأم، قال: ومقتضى الخبر أن من يرثها لا يعقل عنها إذا لم يكن من عصبتها، وهو متفق عليه بين العلماء كما قاله ابن المنذر. قلت: وقد ذكرت قبل هذا أن في رواية أسامة بن عمير " فقال أبوها إنما يعقلها بنوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم الدية على العصبة". *3* وَيُذْكَرُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ بَعَثَتْ إِلَى مُعَلِّمِ الْكُتَّابِ ابْعَثْ إِلَيَّ غِلْمَانًا يَنْفُشُونَ صُوفًا وَلَا تَبْعَثْ إِلَيَّ حُرًّا الشرح: قوله (باب من استعان عبدا أو صبيا) كذا للأكثر بالنون. وللنسفي والإسماعيلي " استعار " بالراء. قال الكرماني: ومناسبة الباب للكتاب أنه لو هلك وجبت قيمة العبد أو دية الحر. قوله (ويذكر أن أم سلمة بعثت إلى معلم الكتاب) في رواية النسفي " معلم كتاب " بالتنكير. قوله (ابعث إلي غلمانا ينفشون) هو بضم الفاء وبالشين المعجمة. قوله (صوفا ولا تبعث إلي حرا) كذا للجمهور بكسر الهمزة وفتح اللام الخفيفة بعدها ياء ثقيلة وذكره ابن بطال بلفظ " إلا " بحرف الاستثناء وشرحه على ذلك، وهو عكس معنى رواية الجماعة. وهذا الأثر وصله الثوري في جامعه وعبد الرزاق في مصنفه عنه عن محمد بن المنكدر عن أم سلمة وكأنه منقطع بين ابن المنكدر وأم سلمة لذلك ولم يجزم به، ثم ذكر حديث أنس في خدمته النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر بالتماس أبي طلحة من النبي صلى الله عليه وسلم وإجابته له، وأبو طلحة كان زوج أم أنس وعن رأيها فعل ذلك، وقد بينت ذلك في أول كتاب الوصايا. قال ابن بطال: إنما اشترطت أم سلمة الحر لأن جمهور العلماء يقولون من استعان حرا لم يبلغ أو عبدا بغير إذن مولاه فهلكا من ذلك العمل فهو ضامن لقيمة العبد وأما دية الحر فهي على عاقلته. قلت: وفي الفرق من هذا التعليل نظر، ونقل ابن التين ما قال ابن بطال ثم نقل عن الداودي أنه قال: يحمل فعل أم سلمة على أنها أمهم قال فعلى هذا لا فرق بين حر وعبد، ونقل عن غيره أنها إنما اشترطت أن لا يكون حرا لأنها أم لنا فمالنا كمالها وعبيدنا كعبيدها، وأما أولادنا فاجتبتهم. وقال الكرماني: لعل غرضها من منع بعث الحر إكرام الحر وإيصال العوض لأنه على تقدير هلاكه في ذلك لا تضمنه، بخلاف العبد فإن الضمان عليها لو هلك به. وفيه دليل على جواز استخدام الأحرار وأولاد الجيران فيما لا كبير مشقة فيه ولا يخاف منه التلف كما في حديث الباب، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أواخر الوصايا. الحديث: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَنَسًا غُلَامٌ كَيِّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ قَالَ فَخَدَمْتُهُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فَوَاللَّهِ مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا الشرح: قوله (عن عبد العزيز) هو ابن صهيب، وقد تقدم منسوبا في هذا الحديث بعينه في كتاب الوصايا، ومناسبة أثر أم سلمة لقصة أنس أن في كل منهما استخدام الصغير بإذن وليه، وهو جار على العرف السائغ في ذلك، وإنما خصت أم سلمة العبيد بذلك لأن العرف جرى برضا السادة باستخدام عبيدهم في الأمر اليسير الذي لا مشقة فيه، بخلاف الأحرار فلم تجر العادة بالتصرف فيهم بالخدمة كما يتصرف في العبيد، وأما قصة أنس فإنه كان في كفالة أمه فرأت له من المصلحة أن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم لما في ذلك من تحصيل النفع العاجل والآجل، فأحضرته وكان زوجها معها فنسب الإحضار إليها تارة وإليه أخرى، وهذا صدر من أم سليم أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كما سبق في " باب حسن الخلق " من كتاب الأدب واضحا، وكانت لأبي طلحة في إحضار أنس قصة أخرى وذلك عند إرادة النبي صلى الله عليه وسلم الخروج إلى خيبر كما أوضحت ذلك هناك أيضا، وتقدم في كتاب المغازي قوله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة لما أراد الخروج إلى خيبر " التمس لي غلاما يخرج معي فأحضر له أنسا " وقد بينت وجه الجمع المذكور في كتاب الأدب أيضا. قال الكرماني: مناسبة الحديث للترجمة أن الخدمة مستلزمة للإعانة، وقوله في آخر الحديث " فما قال لي لشيء صنعته لم صنعت هذا هكذا، ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع هذا هكذا " كذا وقع بصيغة واحدة في الإثبات والنفي، وهو في الإثبات واضح وأما النفي فقال ابن التين مراده أنه لم يلمه في الشق الأول على شيء فعله ناقصا عن إرادته تجوزا عنه وحلما ولا لامه في الشق الثاني على ترك شيء لم يفعله خشية من أنس أن يخطئ فيه لو فعله، وإلى ذلك أشار بقوله " هذا هكذا " لأنه كما صفح عنه فيما فعله ناقصا عن إرادته صفح عنه فيما لم يفعله خشية وقوع الخطأ منه، ولو فعله ناقصا عن إرادته لصفح عنه. انتهى ملخصا، ولا يخفى تكلفه. وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق ابن جريج قال: أخبرني إسماعيل وهو ابن إبراهيم المعروف بابن علية راويه في هذا الباب بلفظ " ولا لشيء لم أفعله لم لم تفعله " وهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر فإن ابن علية مشهور بالرواية عن ابن جريج فروى ابن جريج هنا عن تلميذه. *3* الشرح: قوله (باب المعدن جبار والبئر جبار) كذا ترجم ببعض الخبر، وأفرد بعضه بعده، وترجم في الزكاة لبقيته وقد تقدم في كتاب الشرب من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بتمامه وبدأ فيه بالمعدن وثنى بالبئر، وأورده هنا من طريق الليث قال " حدثني ابن شهاب " وهذا مما سمعه الليث عن الزهري وهو كثير الرواية عنه بواسطة وبغير واسطة. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ الشرح: قوله (عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة) كذا جمعهما الليث ووافقه الأكثر، واقتصر بعضهم على أبي سلمة، وتقدم في الزكاة من رواية مالك عن ابن شهاب فقال " عن سعيد بن المسيب وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن " وهذا قد يظن أنه عن سعيد مرسل وعن أبي سلمة موصول، وقد أخرجه مسلم والنسائي من رواية يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة قال الدار قطني: المحفوظ عن ابن شهاب عن سعيد وأبي سلمة، وليس قول يونس بمدفوع. قلت: قد تابعه الأوزاعي عن الزهري في قوله " عن عبيد الله " لكن قال " عن ابن عباس " بدل أبي هريرة، وهو وهم من الراوي عنه يوسف بن خالد كما نبه عليه ابن عدي، وقد روى سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد وحده عن أبي هريرة شيئا منه، وروى بعض الضعفاء عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس بعضه ذكره ابن عدي وهو غلط. وأخرج مسلم الحديث بتمامه من رواية الأسود بن العلاء عن أبي سلمة، وقد رواه عن أبي هريرة جماعة غير من ذكر منهم محمد بن زياد كما في الباب الذي بعد وهمام بن منبه أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي. قوله (العجماء) بفتح المهملة وسكون الجيم وبالمد تأنيث أعجم وهي البهيمة، ويقال أيضا لكل حيوان غير الإنسان، ويقال لمن لا يفصح والمراد هنا الأول. قوله (جبار) بضم الجيم وتخفيف الموحدة هو الهدر الذي لا شيء فيه، كذا أسنده ابن وهب عن ابن شهاب، وعن مالك ما لا دية فيه أخرجه الترمذي، وأصله أن العرب تسمي السيل جبارا أي لا شيء فيه. وقال الترمذي فسر بعض أهل العلم قالوا: العجماء الدابة المنفلتة من صاحبها فما أصابت من انفلاتها فلا غرم على صاحبها. وقال أبو داود بعد تخرجه: العجماء التي تكون منفلتة لا يكون معها أحد، وقد تكون بالنهار ولا تكون بالليل ووقع عند ابن ماجه في آخر حديث عبادة بن الصامت " والعجماء البهيمة من الأنعام وغيرها، والجبار هو الهدر الذي لا يغرم " كذا وقع التفسير مدرجا وكأنه من رواية موسى بن عقبة. وذكر ابن العربي أن بناء ج ب ر للرفع والإهدار من باب السلب وهو كثير يأتي اسم الفعل والفاعل لسلب معناه كما يأتي لإثبات معناه، وتعقبه شيخنا في شرح الترمذي بأنه للرفع على بابه لأن إتلافات الآدمي مضمونة مقهور متلفها على ضمانها، وهذا إتلاف قد ارتفع عن أن يؤخذ به أحد، وسيأتي بقية ما يتعلق بالعجماء في الباب الذي يليه. قوله (والبئر جبار) في رواية الأسود بن العلاء عند مسلم " والبئر جرحها جبار " أما البئر فهي بكسر الموحدة ثم ياء ساكنة مهموزة ويجوز تسهيلها وهي مؤنثة وقد تذكر على معنى القليب والطوى والجمع أبؤر وآبار بالمد والتخفيف وبهمزتين بينهما موحدة ساكنة، قال أبو عبيد: المراد بالبئر هنا العادية القديمة التي لا يعلم لها مالك تكون في البادية فيقع فيها إنسان أو دابة فلا شيء في ذلك على أحد، وكذلك لو حفر بئرا في ملكه أو في موات فوقع فيها إنسان أو غيره فتلف فلا ضمان إذا لم يكن منه تسبب إلى ذلك ولا تغرير، وكذا لو استأجر إنسانا ليحفر له البئر فانهارت عليه فلا ضمان، وأما من حفر بئرا في طريق المسلمين وكذا في ملك غيره بغير إذن فتلف بها إنسان فإنه يجب ضمانه على عاقلة الحافر والكفارة في ماله، وإن تلف بها غير آدمي وجب ضمانه في مال الحافر، ويلتحق بالبئر كل حفرة على التفصيل المذكور، والمراد بجرحها وهي بفتح الجيم لا غير كما نقله في النهاية عن الأزهري ما يحصل بالواقع فيها من الجراحة وليست الجراحة مخصوصة بذلك بل كل الإتلافات ملحقة بها قال عياض وجماعة إنما عبر بالجرح لأنه الأغلب أو هو مثال نبه به على ما عداه والحكم في جميع الإتلافات بها سواء كان على نفس أو مال، ورواية الأكثر تتناول ذلك على بعض الآراء، ولكن الراجح الذي يحتاج لتقدير لا عموم فيه، قال ابن بطال: وخالف الحنفية في ذلك فضمنوا حافر البئر مطلقا قياسا على راكب الدابة، ولا قياس مع النص، قال ابن العربي اتفقت الروايات المشهورة على التلفظ بالبئر، وجاءت رواية شاذة بلفظ " النار جبار " بنون وألف ساكنة قبل الراء ومعناه عندهم أن من استوقد نارا مما يجوز له فتعدت حتى أتلفت شيئا فلا ضمان عليه، قال وقال بعضهم: صحفها بعضهم لأن أهل اليمن يكتبون النار بالياء لا بالألف فظن بعضهم البئر الموحدة النار بالنون فرواها كذلك، قلت هذا التأويل نقله ابن عبد البر وغيره عن يحيى بن معين وجزم بأن معمرا صحفه حيث رواه عن همام عن أبي هريرة، قال ابن عبد البر: ولم يأت ابن معين على قوله بدليل، وليس بهذا ترد أحاديث الثقات. قلت: ولا يعترض على الحفاظ الثقات بالاحتمالات. ويؤيده ما قال ابن معين اتفاق الحفاظ من أصحاب أبي هريرة على ذكر البئر دون النار، وقد ذكر مسلم أن علامة المنكر في حديث المحدث أن يعمد إلى مشهور بكثرة الحديث والأصحاب فيأتي عنه بما ليس عندهم وهذا من ذاك، ويؤيده أيضا أنه وقع عند أحمد من حديث جابر بلفظ " والجب جبار " بجيم مضمومة وموحدة ثقيلة وهي البئر، وقد اتفق الحفاظ على تغليط سفيان بن حسين حيث روى عن الزهري في حديث الباب " الرجل جبار " بكسر الراء وسكون الجيم، وما ذاك إلا أن الزهري مكثر من الحديث والأصحاب فتفرد سفيان عنه بهذا اللفظ فعد منكرا. وقال الشافعي: لا يصح هذا. وقال الدار قطني: رواه عن أبي هريرة سعيد بن المسيب وأبو سلمة وعبيد الله بن عبد الله والأعرج وأبو صالح ومحمد بن زياد ومحمد ابن سيرين فلم يذكروها، وكذلك رواه أصحاب الزهري وهو المعروف: نعم الحكم الذي نقله ابن العربي صحيح ويمكن أن يتلقى من حيث المعنى من الإلحاق بالعجماء ويلتحق به كل جماد، فلو أن شخصا عثر فوقع رأسه في جدار فمات أو انكسر لم يجب على صاحب الجدار شيء. قوله (والمعدن جبار) وقع في رواية الأسود بن العلاء عند مسلم " والمعدن جرحها جبار " والحكم فيه ما تقدم في البئر لكن البئر مؤنثة والمعدن مذكر فكأنه ذكره بالتأنيث للمؤاخاة أو لملاحظة أرض المعدن، فلو حفر معدنا في ملكه أو في موات فوقع فيه شخص فمات فدمه هدر، وكذا لو استأجر أجيرا يعمل له فانهار عليه فمات، ويلتحق بالبئر والمعدن في ذلك كل أجير على عمل كمن استؤجر على صعود نخلة فسقط منها فمات. قوله (وفي الركاز الخمس) تقدم شرحه مستوفى في كتاب الزكاة وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ كَانُوا لَا يُضَمِّنُونَ مِنْ النَّفْحَةِ وَيُضَمِّنُونَ مِنْ رَدِّ الْعِنَانِ وَقَالَ حَمَّادٌ لَا تُضْمَنُ النَّفْحَةُ إِلَّا أَنْ يَنْخُسَ إِنْسَانٌ الدَّابَّةَ وَقَالَ شُرَيْحٌ لَا تُضْمَنُ مَا عَاقَبَتْ أَنْ يَضْرِبَهَا فَتَضْرِبَ بِرِجْلِهَا وَقَالَ الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ إِذَا سَاقَ الْمُكَارِي حِمَارًا عَلَيْهِ امْرَأَةٌ فَتَخِرُّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ إِذَا سَاقَ دَابَّةً فَأَتْعَبَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ وَإِنْ كَانَ خَلْفَهَا مُتَرَسِّلًا لَمْ يَضْمَنْ الشرح: قوله (باب العجماء جبار) أفردها بترجمة لما فيها من التفاريع الزائدة عن البئر والمعدن، وتقدمت الإشارة إلى ذلك. قوله (وقال ابن سيرين كانوا لا يضمنون) بالتشديد (من النفحة) بفتح النون وسكون الفاء ثم حاء مهملة أي الضربة بالرجل، يقال نفحت الدابة إذا ضربت برجلها ونفح بالمال رمى به ونفح عن فلان ونافح دفع ودافع. قوله (ويضمنون من رد العنان) بكسر المهملة ثم نون خفيفة هو ما يوضع في فم الدابة ليصرفها الراكب كما يختار والمعنى أن الدابة إذا كانت مركوبة فلفت الراكب عنانها فأصابت برجلها شيئا ضمنه الراكب، وإذا ضربت برجلها من غير أن يكون له في ذلك تسبب لم يضمن، وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور عن هشيم حدثنا ابن عون عن محمد بن سيرين، وهذا سند صحيح، وأسنده ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن سيرين نحوه. قوله (وقال حماد لا تضمن النفحة إلا أن ينخس) بنون ومعجمة ثم مهملة أي يطعن. قوله (إنسان الدابة) هو أعم من أن يكون صاحبها أو أجنبيا، وهذا الأثر وصل بعضه ابن أبي شيبة من طريق شعبة سألت الحكم عن رجل واقف على دابته فضربت برجلها فقال: يضمن. وقال حماد: لا يضمن. قوله (وقال شريح) هو ابن الحارث القاضي المشهور. قوله (لا يضمن ما عاقبت) أي الدابة (أن يضربها فتضرب برجلها) وصله ابن أبي شيبة من طريق محمد بن سيرين عن شريح قال: يضمن السائق والراكب ولا يضمن الدابة إذا عاقبت قلت: وما عاقبت قال إذا ضربها رجل فأصابته. وأخرجه سعيد بن منصور من هذا الوجه وزاد " أو رأسها إلا أن يضربها رجل فتعاقبه فلا ضمان". قوله (وقال الحكم) أي ابن عتيبة بمثناة وموحدة مصغر هو الكوفي أحد فقهائهم (وحماد) هو ابن أبي سليمان أحد فقهاء الكوفة أيضا. قوله (إذا ساق المكاري) بكسر الراء وبفتحها أيضا. قوله (حمارا عليه امرأة فتخر) بالخاء المعجمة أي تسقط. قوله (لا شيء عليه) أي لا ضمان. قوله (وقال الشعبي إذا ساق دابة فأتعبها فهو ضامن لما أصابت وإن كان خلفها مترسلا لم يضمن) وصلها سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من طريق إسماعيل بن سالم عن عامر وهو الشعبي قال: إذا ساق الرجل الدابة وأتعبها فأصابت إنسانا فهو ضامن، فإن كان خلفها مترسلا أي يمشي على هينته فليس عليه ضمان فيما أصابت. قال ابن بطال: فرق الحنفية فيما أصابت الدابة بيدها أو رجلها فقالوا لا يضمن ما أصابت برجلها وذنبها ولو كانت بسبب، ويضمن ما أصابت بيدها وفمها، فأشار البخاري إلى الرد بما نقله عن أئمة أهل الكوفة مما يخالف ذلك. وقد احتج لهم الطحاوي بأنه لا يمكن التحفظ من الرجل والذنب بخلاف اليد والفم واحتج برواية سفيان بن حسين " الرجل جبار " وقد غلطه الحفاظ، ولو صح فاليد أيضا جبار بالقياس على الرجل. وكل منهما مقيد بما إذا لم يكن لمن هي معه مباشرة ولا تسبب، ويحتمل أن يقال حديث " الرجل جبار " مختصر من حديث " العجماء جبار " لأنها فرد من أفراد العجماء، وهم لا يقولون بتخصيص العموم بالمفهوم فلا حجة لهم فيه، وقد وقع في حديث الباب زيادة " والرجل جبار " أخرجه الدار قطني من طريق آدم عن شعبة. وقال تفرد آدم عن شعبة بهذه الزيادة وهي وهم، وعند الحنفية خلاف فقال أكثرهم لا يضمن الراكب والقائد في الرجل والذنب إلا إن أوقفها في الطريق، وأما السائق فقيل ضامن لما أصابت بيدها أو رجلها لأن النفحة بمرأى عينه فيمكنه الاحتراز عنها، والراجح عندهم لا يضمن النفحة وإن كان يراها إذ ليس على رجلها ما يمنعها به فلا يمكنه التحرز عنه، بخلاف الفم فإنه يمنعها باللجام وكذا قال الحنابلة. الحديث: حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْعَجْمَاءُ عَقْلُهَا جُبَارٌ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ الشرح: قوله (حدثنا مسلم) هو ابن إبراهيم ومحمد بن زيادة هو الجمحي والسند بصريون. قوله (عن أبي هريرة) في رواية الإسماعيلي من طريق علي بن الجعد عن شعبة عن محمد بن زيادة (سمعت أبا هريرة". قوله (العجماء عقلها جبار) في رواية حامد البلخي عن أبي زيد عن شعبة " جرح العجماء جبار " أخرجه الإسماعيلي، ووقع في رواية الأسود بن العلاء عند مسلم " العجماء جرحها جبار " وكذا في حديث كثير بن عبد الله المزني عند ابن ماجه، وفي حديث عبادة بن الصامت عنده. وقال شيخنا في شرح الترمذي: وليس ذكر الجرح قيدا وإنما المراد به إتلافها بأي وجه كان سواء كان بجرح أو غيره، والمراد بالعقل الدية أي لا دية فيما تتلفه. وقد استدل بهذا الإطلاق من قال: لا ضمان فيما أتلفت البهيمة سواء كانت منفردة أو معها أحد سواء كان راكبها أو سائقها أو قائدها، وهو قول الظاهرية، واستثنوا ما إذا كان الفعل منسوبا إليه بأن حملها على ذلك الفعل إذا كان راكبا كأن يلوي عنانها فتتلف شيئا برجلها مثلا أو يطعنها أو يزجرها حين يسوقها أو يقودها حتى تتلف ما مرت عليه، وأما ما لا ينسب إليه فلا ضمان فيه. وقال الشافعية إذا كان مع البهيمة إنسان فإنه يضمن ما أتلفته من نفس أو عضو أو مال سواء كان سائقا أو راكبا أو قائدا سواء كان مالكا أو أجيرا أو مستأجرا أو مستعيرا أو غاصبا، وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو ذنبها أو رأسها، وسواء كان ذلك ليلا أو نهارا، والحجة في ذلك أن الإتلاف لا فرق فيه بين العمد وغيره، ومن هو مع البهيمة حاكم عليها فهي كالآلة بيده ففعلها منسوب إليه سواء حملها عليه أم لا، سواء علم به أم لا وعن مالك كذلك إلا إن رمحت بغير أن يفعل بها أحد شيئا ترمح بسببه، وحكاه ابن عبد البر عن الجمهور. وقد وقع في رواية جابر عند أحمد والبزار بلفظ " السائمة جبار " وفيه إشعار بأن المراد بالعجماء البهيمة التي ترعى لا كل بهيمة، لكن المراد بالسائمة هنا التي ليس معها أحد لأنه الغالب على السائمة، وليس المراد بها التي لا تعلف كما في الزكاة فإنه ليس مقصودا هنا، واستدل به على أنه لا فرق في إتلاف البهيمة للزروع وغيرها في الليل والنهار وهو قول الحنفية والظاهرية. وقال الجمهور: إنما يسقط الضمان إذا كان ذلك نهارا، وأما بالليل فإن عليه حفظها، فإذا أتلفت بتقصير منه وجب عليه ضمان ما أتلفت، ودليل هذا التخصيص ما أخرجه الشافعي رضي الله عنه وأبو داود والنسائي وابن ماجه كلهم من رواية الأوزاعي والنسائي أيضا وابن ماجه من رواية عبد الله بن عيسى والنسائي أيضا من رواية محمد بن ميسرة وإسماعيل بن أمية كلهم عن الزهري عن حرام ابن محيصة الأنصاري عن البراء بن عازب قال كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها وأن على أهل المواشي ما أصابت ماشيتهم بالليل " وأخرج ابن ماجه أيضا من رواية الليث عن الزهري عن ابن محيصة أن ناقة للبراء ولم يسم حراما. وأخرج أبو داود من رواية معمر عن الزهري فزاد فيه رجلا قال " عن حرام بن محيصة عن أبيه " وكذا أخرجه مالك والشافعي عنه عن الزهري (عن حرام بن سعيد بن محيصة أن ناقة " وأخرجه الشافعي في رواية المزني في المختصر عنه عن سفيان عن الزهري فزاد مع حرام سعيد بن المسيب قالا " إن ناقة للبراء " وفيه اختلاف آخر أخرجه البيهقي من رواية ابن جريج عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل فاختلف فيه على الزهري على ألوان والمسند منها طريق حرام عن البراء. وحرام بمهملتين اختلف هل هو ابن محيصة نفسه أو ابن سعد بن محيصة، قال ابن حزم: وهو مع ذلك مجهول لم يرو عنه إلا الزهري ولم يوثقه. قلت: وقد وثقه ابن سعد وابن حبان لكن قال إنه لم يسمع من البراء انتهى وعلى هذا فيحتمل أن يكون قول من قال فيه عن البراء أي عن قصة ناقة البراء فتجتمع الروايات، ولا يمتنع أن يكون للزهري فيه ثلاثة أشياخ، وقد قال ابن عبد البر: هذا الحديث وإن كان مرسلا فهو مشهور حدث به الثقات وتلقاه فقهاء الحجاز بالقبول، وأما إشارة الطحاوي إلى أنه منسوخ بحديث الباب فقد تعقبوه بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال مع الجهل بالتاريخ، وأقوى من ذلك قول الشافعي: أخذنا بحديث البراء لثبوته ومعرفة رجاله ولا يخالفه حديث " العجماء جبار " لأنه من العام المراد به الخاص، فلما قال " العجماء جبار " وقضى فيما أفسدت العجماء بشيء في حال دون حال دل ذلك على أن ما أصابت العجماء من جرح وغيره في حال جبار وفي حال غير جبار ثم نقض على الحنفية أنهم لم يستمروا على الأخذ بعمومه في تضمين الراكب متمسكين بحديث " الرجل جبار " مع ضعف راويه كما تقدم، وتعقب بعضهم على الشافعية قولهم إنه لو جرت عادة قوم إرسال المواشي ليلا وحبسها نهارا انعكس الحكم على الأصح، وأجابوا بأنهم اتبعوا المعنى في ذلك، ونظيره القسم الواجب للمرأة لو كان يكتسب ليلا ويأوي إلى أهله نهارا لانعكس الحكم في حقه مع أن عماد القسم الليل، نعم لو اضطربت العادة في بعض البلاد فكان بعضهم يرسلها ليلا وبعضهم يرسلها نهارا فالظاهر أنه يقضى بما دل عليه الحديث. *3* الشرح: قوله (باب إثم من قتل ذميا بغير جرم) بضم الجيم وسكون الراء، وقد بينت في الجزية حكمة هذا القيد وأنه وإن لم يذكر في الخبر فقد عرف من قاعدة الشرع، ووقع نصا في رواية أبي معاوية عن الحسن بن عمرو عند الإسماعيلي بلفظ " حق " وللبيهقي من رواية صفوان بن سليم عن ثلاثين من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ " من قتل معاهدا له ذمة الله ورسوله " ولأبي داود والنسائي من حديث أبي بكرة " من قتل معاهدا في غير كنهه " والذمي منسوب إلى الذمة وهي العهد ومنه " ذمة المسلمين واحدة". الحديث: حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا الشرح: قوله (عبد الواحد) هو ابن زياد. قوله (حدثنا الحسن) هو ابن عمرو الفقيمي بفاء ثم قاف مصغر وقد بينت حاله في كتاب الجزية. قوله (مجاهد عن عبد الله بن عمرو) هكذا في جميع الطرق بالعنعنة وقد وقع في رواية مروان بن معاوية عن الحسن بن عمرو عن مجاهد عن جنادة بن أبي أمية عن عبد الله بن عمرو فزاد فيه رجلا بين مجاهد وعبد الله أخرجه النسائي وابن أبي عاصم من طريقه، وجزم أبو بكر البردنجي في كتابه في بيان المرسل أن مجاهدا لم يسمع من عبد الله بن عمرو. قوله (من قتل نفسا معاهدا) كذا ترجم بالذمي، وأورد الخبر في المعاهد وترجم في الجزية بلفظ " من قتل معاهدا " كما هو ظاهر الخبر، والمراد به من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم، وكأنه أشار بالترجمة هنا إلى رواية مروان بن معاوية المذكورة فإن لفظه " من قتل قتيلا من أهل الذمة " وللترمذي من حديث أبي هريرة " من قتل نفسا معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله " الحديث وقد ذكرت في الجزية من تابع عبد الواحد على إسقاط جنادة ونقلت ترجيح الدار قطني لرواية مروان لأجل الزيادة وبينت أن مجاهدا ليس مدلسا وسماعه من عبد الله بن عمرو ثابت فترجح رواية عبد الواحد لأنه توبع وانفرد مروان بالزيادة، وقوله "لم يرح " تقدم شرحه في الجزية، والمراد بهذا النفي وإن كان عاما التخصيص بزمان ما لما تعاضدت الأدلة العقلية والنقلية أن من مات مسلما ولو كان من أهل الكبائر فهو محكوم بإسلامه غير مخلد في النار ومآله إلى الجنة ولو عذب قبل ذلك. قوله (ليوجد) كذا للأكثر هنا وفي رواية الكشميهني بحذف اللام. قوله (أربعين عاما) كذا وقع للجميع وخالفهم عمرو بن عبد الغفار عن الحسن بن عمرو عند الإسماعيلي فقال " سبعين عاما " ومثله في حديث أبي هريرة عند الترمذي من طريق محمد بن عجلان عن أبيه عنه ولفظه " وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا " ومثله في رواية صفوان بن سليم المشار إليها، ونحوه لأحمد من طريق هلال بن يساف عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم " سيكون قوم لهم عهد فمن قتل منهم رجلا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاما " وعبد الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ " من مسيرة مائة عام " وفي الطبراني عن أبي بكرة " خمسمائة عام " ووقع في الموطأ في حديث آخر " إن ريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام " وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير من حديث أبي هريرة، وفي حديث لجابر ذكره صاحب الفردوس " إن ريح الجنة يدرك من مسيرة ألف عام " وهذا اختلاف شديد، وقد تكلم ابن بطال على ذلك فقال: الأربعون هي الأشد فمن بلغها زاد عمله ويقينه وندمه، فكأنه وجد ريح الجنة التي تبعثه على الطاعة، قال: والسبعون آخر المعترك ويعرض عندها الندم وخشية هجوم الأجل فتزداد الطاعة بتوفيق الله فيجد ريحها من المدة المذكورة، وذكر في الخمسمائة كلاما متكلفا حاصله أنها مدة الفترة التي بين كل نبي ونبي فمن جاء في آخرها وآمن بالنبيين يكون أفضل في غيره فيجد ريح الجنة. وقال الكرماني: يحتمل أن لا يكون العدد بخصوصه مقصودا بل المقصود المبالغة في التكثير، ولهذا خص الأربعين والسبعين لأن الأربعين يشتمل على جميع أنواع العدد لأن فيه الآحاد وآحاده عشرة والمائة عشرات والألف مئات والسبع عدد فوق العدد الكامل وهو ستة إذ أجزاؤه بقدره وهي النصف والثلث والسدس بغير زيادة ولا نقصان، وأما الخمسمائة فهي ما بين السماء والأرض. قلت: والذي يظهر لي في الجمع أن يقال إن الأربعين أقل زمن يدرك به ريح الجنة من في الموقف والسبعين فوق ذلك أو ذكرت للمبالغة، والخمسمائة ثم الألف أكثر من ذلك، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأعمال، فمن أدركه من المسافة البعدى أفضل ممن أدركه من المسافة القربى وبين ذلك، وقد أشار إلى ذلك شيخنا في شرح الترمذي فقال: الجمع بين هذه الروايات أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص بتفاوت منازلهم ودرجاتهم. ثم رأيت نحوه في كلام ابن العربي فقال: ريح الجنة لا يدرك بطبيعة ولا عادة وإنما يدرك بما يخلق الله من إدراكه فتارة يدركه من شاء الله من مسيرة سبعين وتارة من مسيرة خمسمائة. ونقل ابن بطال أن المهلب احتج بهذا الحديث على أن المسلم إذا قتل الذمي أو المعاهد لا يقتل به للاقتصار في أمره على الوعيد الأخروي دون الدنيوي، وسيأتي البحث في هذا الحكم في الباب الذي بعده. *3* الشرح: قوله (باب لا يقتل المسلم بالكافر) عقب هذه الترجمة بالتي قبلها للإشارة إلى أنه لا يلزم من الوعيد الشديد على قتل الذمي أن يقتص من المسلم إذا قتله عمدا، وللإشارة إلى أن المسلم إذا كان لا يقتل بالكافر فليس له قتل كل كافر، بل يحرم عليه قتل الذمي والمعاهد بغير استحقاق. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ أَنَّ عَامِرًا حَدَّثَهُمْ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ قُلْتُ لِعَلِيٍّ ح حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يُحَدِّثُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ قَالَ سَأَلْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ مَرَّةً مَا لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ فَقَالَ وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا عِنْدَنَا إِلَّا مَا فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ فِي كِتَابِهِ وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ قُلْتُ وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ قَالَ الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ الشرح: قوله (حدثنا صدقة بن الفضل) ثبت في بعض النسخ هنا " حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا مطرف أن عامرا حدثهم عن أبي جحيفة ح وحدثنا صدقة بن الفضل إلخ " والصواب ما عند الأكثر، وطريق أحمد بن يونس تقدمت في الجزية. قوله (مطرف) بمهملة وتشديد الراء هو ابن طريف بوزن عظيم كوفي مشهور. قوله (سألت عليا) تقدم في كتاب العلم بيان سبب هذا السؤال، وهذا السياق أخصر من سياقه في كتاب العلم من وجه آخر عن مطرف، قال أحمد عن سفيان بن عيينة بهذا السند " هل عندكم شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير القرآن؟ ولم يتردد فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهم يؤتيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة " فذكره، وقد تقدم من وجه آخر عن مطرف في العلم وغيره مع شرح الحديث وبيان اختلاف ألفاظ نقلته عن علي وبيان المراد بالعقل وفكاك الأسير، وأما ترك قتل المسلم بالكافر فأخذ به الجمهور، إلا أنه يلزم من قول مالك في قاطع الطريق ومن في معناه إذا قتل غيلة أن يقتل ولو كان المقتول ذميا استثناء هذه الصورة من منع قتل المسلم بالكافر، وهي لا تستثنى في الحقيقة لأن فيه معنى آخر وهو الفساد في الأرض، وخالف الحنفية فقالوا: يقتل المسلم بالذمي إذا قتله بغير استحقاق ولا يقتل بالمستأمن، وعن الشعبي والنخعي يقتل باليهودي والنصراني دون المجوسي، واحتجوا بما وقع عند أبي داود من طريق الحسن عن قيس بن عباد عن علي بلفظ " لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده " وأخرجه أيضا من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس والبيهقي عن عائشة ومعقل بن يسار، وطرقه كلها ضعيفة إلا الطريق الأولى والثانية فإن سند كل منهما حسن، وعلى تقدير قبوله فقالوا: وجه الاستدلال منه أن تقديره ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر، قالوا: وهو من عطف الخاص على العام فيقتضي تخصيصه، لأن الكافر الذي يقتل به ذو العهد هو الحربي دون المساوي له والأعلى، فلا يبقى من يقتل بالمعاهد إلا الحربي فيجب أن يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم هو الحربي تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه، قال الطحاوي: ولو كانت فيه دلالة على نفي قتل المسلم بالذمي لكان وجه الكلام أن يقول ولا ذي عهد في عهده وإلا لكان لحنا والنبي صلى الله عليه وسلم لا يلحن، فلما لم يكن كذلك علمنا أن ذا العهد هو المعنى بالقصاص فصار التقدير لا يقتل مؤمن ولا ذو عهد في عهده بكافر، قال: ومثله في القرآن ولو سلم أنها للعطف فالمشاركة في أصل النفي لا من كل وجه، وهو كقول القائل مررت بزيد منطلقا وعمرو فإنه لا يوجب أن يكون بعمرو منطلقا أيضا بل المشاركة في أصل المرور. وقال الطحاوي أيضا: لا يصح حمله على الجملة المستأنفة لأن سياق الحديث فيما يتعلق بالدماء التي يسقط بعضها ببعض، لأن في بعض طرقه " المسلمون تتكافأ دماؤهم " وتعقب بأن هذا الحصر مردود، فإن في الحديث أحكاما كثيرة غير هذه، وقد أبدى الشافعي له مناسبة فقال: يشبه أن يكون لما أعلمهم أن لا قود بينهم وبين الكفار أعلمهم أن دماء أهل الذمة والعهد محرمة عليهم بغير حق فقال " لا يقتل مسلم بكافر ولا يقتل ذو عهد في عهده " ومعنى الحديث لا يقتل مسلم بكافر قصاصا ولا يقتل من له عهد ما دام عهده باقيا. وقال ابن السمعاني: وأما حملهم الحديث على المستأمن فلا يصح لأن العبرة بعموم اللفظ حتى يقوم دليل على التخصيص، ومن حيث المعنى أن الحكم الذي يبنى في الشرع على الإسلام والكفر إنما هو لشرف الإسلام أو لنقص الكفر أو لهما جميعا فإن الإسلام ينبوع الكرامة والكفر ينبوع الهوان، وأيضا إباحة دم الذمي شبهة قائمة لوجود الكفر المبيح للدم والذمة إنما هي عهد عارض منع القتل مع بقاء العلة فمن الوفاء بالعهد أن لا يقتل المسلم ذميا فإن اتفق القتل لم يتجه القول بالقود لأن الشبهة المبيحة لقتله موجودة ومع قيام الشبهة لا يتجه القود. قلت: وذكر أبو عبيد بسند صحيح عن زفر أنه رجع عن قول أصحابه فأسند عن عبد الواحد بن زياد قال: قلت لزفر إنكم تقولون تدرأ الحدود بالشبهات فجئتم إلى أعظم الشبهات فأقدمتم عليها المسلم يقتل بالكافر، قال: فاشهد على أني رجعت عن هذا وذكر ابن العربي أن بعض الحنفية سأل الشاشي عن دليل ترك قتل المسلم بالكافر قال وأراد أن يستدل بالعموم فيقول أخصه بالحربي، فعدل الشاشي عن ذلك فقال: وجه دليلي السنة والتعليل، لأن ذكر الصفة في الحكم يقتضي التعليل فمعنى لا يقتل المسلم بالكافر تفضيل المسلم بالإسلام. فأسكته. ومما احتج به الحنفية ما أخرجه الدار قطني من طريق عمار بن مطر عن إبراهيم بن أبي يحيى عن ربيعة عن ابن البيلماني عن ابن عمر قال " قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما بكافر وقال: أنا أولى من وفى بذمته " قال الدار قطني: إبراهيم ضعيف ولم يروه موصولا غيره، والمشهور عن ابن البيلماني مرسلا. وقال البيهقي: أخطأ راويه عمار بن مطر على إبراهيم في سنده، وإنما يرويه إبراهيم عن محمد بن المنكدر عن عبد الرحمن بن البيلماني، هذا هو الأصل في هذا الباب، وهو منقطع وراويه غير ثقة، كذلك أخرجه الشافعي وأبو عبيد جميعا عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى. قلت: لم ينفرد به إبراهيم كما يوهمه كلامه، فقد أخرجه أبو داود في المراسيل والطحاوي من طريق سليمان بن بلال عن ربيعة عن ابن البيلماني، وابن البيلماني ضعفه جماعة ووثق فلا يحتج بما ينفرد به إذا وصل، فكيف إذا أرسل، فكيف إذا خالف؟ قاله الدار قطني. وقد ذكر أبو عبيد بعد أن حدث به عن إبراهيم، بلغني أن إبراهيم قال: أنا حدثت به ربيعة عن ابن المنكدر عن ابن البيلماني، فرجع الحديث على هذا إلى إبراهيم، وإبراهيم ضعيف أيضا، قال أبو عبيدة: وبمثل هذا السند لا تسفك دماء المسلمين. قلت: وتبين أن عمار بن مطر خبط في سنده، وذكر الشافعي في " الأم " كلاما حاصله أن في حديث ابن البيلماني أن ذلك كان في قصة المستأمن الذي قتله عمرو بن أمية، قال فعلى هذا لو ثبت لكان منسوخا لأن حديث " لا يقتل مسلم بكافر " خطب به النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح كما في رواية عمرو بن شعيب، وقصة عمرو بن أمية متقدمة على ذلك بزمان. قلت: ومن هنا يتجه صحة التأويل الذي تقدم عن الشافعي، فإن خطبة يوم الفتح كانت بسبب القتيل الذي قتلت خزاعة وكان له عهد، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال " لو قتلت مؤمنا بكافر لقتلته به " وقال " لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهد " فأشار بحكم الأول إلى ترك اقتصاصه من الخزاعي بالمعاهد الذي قتله. وبالحكم الثاني إلى النهي عن الإقدام على ما فعله القاتل المذكور، والله أعلم. ومن حججهم قطع المسلم بسرقة مال الذمي، قالوا والنفس أعظم حرمة، وأجاب ابن بطال بأنه قياس حسن لولا النص، وأجاب غيره بأن القطع حق لله، ومن ثم لو أعيدت السرقة بعينها لم يسقط الحد ولو عفا، والقتل بخلاف ذلك. وأيضا القصاص يشعر بالمساواة ولا مساواة للكافر والمسلم، والقطع لا تشترط فيه المساواة. *3* رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله (باب إذا لطم المسلم يهوديا عند الغضب) أي لم يجب عليه قصاص كما لم كان من أهل الذمة، وكأنه رمز بذلك إلى أن المخالف يرى القصاص في اللطمة، فلما لم يقتص النبي صلى الله عليه وسلم للذمي من المسلم دل على أنه لا يجري القصاص، لكن ليس كل الكوفيين يرى القصاص في اللطمة فيختص الإيراد بمن يقول منهم بذلك. قوله (رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم) تقدم موصولا مع شرحه في قصة موسى من أحاديث الأنبياء وفي بعض طرقه كما بينته هناك " فقال اليهودي إن لي ذمة وعهدا". الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ الشرح: قوله (حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تخيروا بين الأنبياء وحدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه الحديث) كذا اقتصر في السند الأول على بعض المتن وساقه تاما بالسند الثاني، وكان سفيان وهو الثوري يحدث به تاما ومختصرا، فقد أخرجه الإسماعيلي من رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بلفظ " لا تخيروا بين الأنبياء " وزاد " فإن الله بعثهم كما بعثني " قال الإسماعيلي: لم يزد على ذلك، ورواه يحيى القطان عن سفيان تاما. قلت: وليس فيه " فإن الله بعثهم كما بعثني". الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ لَطَمَ فِي وَجْهِي قَالَ ادْعُوهُ فَدَعَوْهُ قَالَ لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بِالْيَهُودِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ قَالَ قُلْتُ وَعَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ فَلَطَمْتُهُ قَالَ لَا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ الشرح: قوله (حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تخيروا بين الأنبياء وحدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه الحديث) كذا اقتصر في السند الأول على بعض المتن وساقه تاما بالسند الثاني، وكان سفيان وهو الثوري يحدث به تاما ومختصرا، فقد أخرجه الإسماعيلي من رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بلفظ " لا تخيروا بين الأنبياء " وزاد " فإن الله بعثهم كما بعثني " قال الإسماعيلي: لم يزد على ذلك، ورواه يحيى القطان عن سفيان تاما. قلت: وليس فيه " فإن الله بعثهم كما بعثني". قوله (جاء رجل) تقدم القول في اسمه وفي اسم الذي لطمه في قصة موسى. قوله (لطم وجهي) في رواية السرخسي " قد لطم وجهي". قوله (فقال ألطمت وجهه) كذا للأكثر بهمزة الاستفهام وفي رواية الكشميهني " لم لطمت". قوله (أم جوزي) في رواية الكشميهني " جزي " بغير واو والأول أولى، وفي الحديث استعداء الذمي على المسلم، ورفعه إلى الحاكم، وسماع الحاكم دعواه، وتعلم من لم يعرف الحكم ما خفي عليه منه والاكتفاء بذلك في حق المسلم، وأن الذمي إذا أقدم من القول على ما لا علم له به جاز للمسلم المعروف بالعلم تعزيره على ذلك، وتقدمت سائر فوائده في قصة موسى عليه السلام. وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ثمانية وعشرون أثرا بعضها موصول وسائرها معلق، والله سبحانه وتعالى أعلم.
|